الاستاذ المحامي حاتم السر علي
الموقع الشخصي للأستاذ
من يسعي لتسميم ثمرة ديسمبر

من يسعي لتسميم ثمرة ديسمبر (الوحيدة)؟!

Share on facebook
الفيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on linkedin
لينكدإن
Share on whatsapp
الواتسآب

طوال مشاركتنا في منازلة النظام السابق خلال سنوات معارضة التجمع الوطني الديمقراطي، وضعنا خططاً واضحة للاستجابة لثورة الشعب المتوقعة، وكنا ننتظر أخبار المظاهرات التي تخرج هنا وهناك، وبيننا مفكر ومثقف؛ وسياسي يدرك أنّ اللهب في طريقه إلى الوصول إلى الجميع، ولكنّ ذلك كان يتأخر؛ ولأسباب كثيرة ربما يسجلها التاريخ. أحياناً يصيبنا إحباط عميق؛ ونكاد نقول “الشعب باع القضية”، فيردنا عن ذلك احترامنا للشعب من جهة، وخوفنا منه من جهة أخرى. ولكن الحقيقة أننا كنا نتحسّر ونحن ننظر إلى نظام الإنقاذ؛ وهو يتمدد بطريقة لا معقولة، في داخل قوانا الحيّة، ولم نكن نتحسّر لأنها أراضينا، بل لأنّ النّظام يقتل أمل الوصول إلى السودان المعافى، باختطافه للوطن ولدولتنا. وكنا نثق أنّ الثورة مقبلة لا محالة، ولكنها تأخّرت.

في حوارات خاصة كنا نحاول إيجاد مبررات لنفور الناس من السياسة؛ ونقول بأنّ الناس ربما لا زالت فترة خلافات الأحزاب؛ تنفّرهم من العمل الديمقراطي لارتباطه بالمناكفات الحزبية ، وكان المتطرفون بيننا يقولون أن الوطنية ماتت! وأن الشعب جري غسل دماغه، وتنطفئ هذه الكلمات حينما نلتقي الجماهير عبر المناديب، وتعود لنا الثقة بأنّ الثورة المرتقبة وشيكة. ولكنّ لا يطول ذلك الأمل العابر حتى ينطفيء مرة أخري.

نبهني باحث صديق قبل 5 سنوات، أن المشكلة لم تكن في موت الوطنية، بل في نفور الشعب من السياسة من جهة، وتآكل ثقته في بعض قادته لدرجة أدّت لتآكل ثقته في نفسه. ولولا الحياء لكنت اطمأننت إلى هذا التحليل، فلم أوافق إلا على الجزء الأول: النفور من السياسة، والانتهاء إلى تواضع شديد في تصور الذات.

كانت مراقبتي لهبّة ديسمبر؛ لصيقة؛ بما يسعه لي الوقت، ولا زلت أراقب تشكلاتها – وإن كان القارئ يعرفني، فسيتأكد أنني قد لا أقول ما يغضبه، ولكني لا أسعى وأنا بين يديه في هذه المقالات؛ لقول ما لا أؤمن به-؛ أقول هذا لأقول أنني لم يأسرني أفق التغيير الذي أفرزته هبّة الشباب؛ فأفقها السياسي لا يختلف عن ما تعودناه، وللملاحظات بقيّة. ولكنّ ما أسرني بحق، أنّها عالجت حالة الضمور الروحي السياسي، التي عانينا منها لسنوات طويلة، وأن اعتداد الناس بأنفسهم عاد قويًا جدًا. وهنا أحتاج أن أفصّل قليلا.

أضافت الهبّة للناس معرفة بأنهم يمكنهم فعل الكثير، تغيير النظام، وتبديل الأفكار الموجودة، صحيح أنهم تمادوا في ذلك ولكنّ النتيجة كانت إعادة علم السودان، والافتخار بالوطن، وراح كل واحد من المنتصرين يستشهد بتاريخه، فهذا يأتي بتهراقا؛ وتلك تأتي بالكنداكة، وهذه تجيء بمهيرة بت عبود، وغيره يأتي بمن يمثله، وصار الجميع “متعزز الوجدان ومكتمل الهوية” ويشعر أنه انتصر، لأنه يستحق الانتصار، وامتلأ “وجدانه” بالمعاني الإيجابية، بغض النظر عن الواقع المادي، واحتياجات البلاد. وهذا لا عيب فيه.

لذلك كنت أقول ولا زلت أقول، عن الحسنات: أعاد التغيير احترام السودانيين للسودان.

ومن هذا المنطلق، كان إصراري في كل مسارات تداخلنا السياسي، سواء في الحزب الاتحادي الديمقراطي، أو حتى في حواراتي الطويلة مع شبابنا الاتحاديين وغيرهم في تيارات الحركة الاتحادية، ومع الحركة الشعبية، ومع الدكتور الشفيع خضر، ومع آخرين غيرهم، هي أن يتم تنحية أيّ ضرورات سياسية، وأجندات حزبية، ومطامع شخصية، وتطلعات بشرية، والالتزام فقط بالحفاظ على هذه الثمرة: (عودة الثقة في السياسة) لأنّها هي النقطة الرئيسية.

ولكن مياه كثيرة مرت تحت الجسر، وفوقه، وصار اغتيال هذا الاحترام، ومحاولة كسره هو الدأب الرئيسي لجهات، للأسف من داخل مركب التغيير، وحاولت أن تقوده، ورأت أن الاحترام يجب أن لا يكون احترام السودانيين للسودان، بل احترام السودانيين، لفئة محددة من السودان، وزاد احتقار (كل الفئات الأخرى).

ولكن الفئة المختارة، لم تنجح، لا في قيادة التغيير، ولا في الحفاظ على طاقته الروحية الهائلة، وتضاءلت، فتحوّلت تجارتها إلى تكثيف “الكراهية”، وتعزيزها، ولم يكن الأمر ملحوظاً، لأنه كان من داخل التيار، ضد الآخرين. وتطوّر بصورة مؤذية ليتحول إلى داخل مركب التغيير نفسه، فصار الشركاء يتشاكسون، وظنوا بأنّ الشعب مضمون الجانب.

ولكن الشعب، كعادته بهدوء بدأ يعيد ولادة طاقات الغضب في داخله، والمشاعر السلبية، مشاعر الازدراء الخفي، تلك التي كنت أشتكي من شيء مثلها في بداية هذا المقال.

وكأنّ الناس لا يقرأون التاريخ، ولا يتعظون من تجربة 30 عامًا  في الحكم والمعارضة. عادت الأصوات الاحتقارية من جديد. تصف الشعب بأنه يموت بالمجان، وأخرى تقول بأنّ السودانيين لو أتيح لهم أن يذهبوا ليحاكموا في لاهاي، لفعلوا ذلك.

صحيح هذه الكلمات حلوة ومضحكة، ولكنها تؤسس لاحتقارنا للمواطن السوداني، وتتاجر بأنه يفقد الثقة في قيادته -التي ربما لا أتفق أنا معها-، وهذه لا تهمني كثيرًا. بل ما يهمني أنها تنتهي إلى الكارثة: استعادة خطاب تحقير الوطن والمواطن!

إذا كان رئيس الوزراء؛ وهو أحد الذين انخلعت عليهم هبات الشعب، ومنحه محبة مجانية، و اتاحت  له الثورة فرصة لم تتح لغيره في تاريخ السودان فقد بلغ مرتبة أسكنته مكانة خاصة في قلوب الجماهير السودانية بمختلف ألوانها واتجاهاتها، حتي كانت تكفي إشارة من سبابته لتحرك نحوه الجموع طائعة ملبية! وإنني لا زلت أقول بأنّ الرجل ذكي و لعله مطلع جيد على التاريخ، ولذلك فأملي كبير، أنه قادر على وقف هذا العبث؛ الراهن، حتي يسير بالسودان الي ذرى المجد الذي كان ينشده. أو على الأقل، حتى لا يفقد الشباب إيمانهم بالسياسة، وحتى لا يعود التصريح بالسوء عن السودان وشعبه، امر عادي، يحدث في تلفزيوننا القومي!

صحيح أننا نحتاج لقانون مكافحة العنصرية، وغيره من قوانين، مثلنا مثل أميركا، ولكن ما نستحقه أكثر الآن هو قانون احترام السودان. احترام المواطن السوداني. فهذه هي إحدى أهم ثمرات شجرة ديسمبر؛ أو الثمرة  التي ينبغي ان نحافظ عليها ونحميها من التلف .

ندائي للساسة والقادة، أن خافوا الله في الشعب  السوداني الذي بدأ يؤمن بالسياسة فلا تتركوه يكفر بها مجددا، فهذا سيدمر الدولة في بلادنا.

*hatimelsir@hotmail.com

*تم النشر يوم 02/07/2020 بصحيفة السياسي السودانية