الاستاذ المحامي حاتم السر علي
الموقع الشخصي للأستاذ

آفاق السلام وتحديات الفترة الانتقالية في السودان

Share on facebook
الفيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on linkedin
لينكدإن
Share on whatsapp
الواتسآب

كتب الصديق العزيز الدكتور الشفيع خضر، مقالة، مميزة في التعاطي مع قضايا السلام في السودان، واستشهد فيها بمواقف الحزب لاتحادي الديمقراطي الأصل، مع القائد عبد العزيز الحلو، والتفاهم المشترك على فتح النقاش مع الجميع، لاستيعاب متطلبات تتجاوز عقبات السلام، الذي يتعثّر في جوبا، فأثار مقال الشفيع، في النفس شجوناً طويلة. ودون أن يشعر كشف لي عن كلمة السّر الغائبة منذ سنوات، وهي (البطل) الحقيقي، لتفاهمات (الميرغني/قرنق) 1988، ولإعلان جوبا بين السيد جعفر الصادق الميرغني، والقائد عبدالعزيز الحلو؟.
نعم كلمة واحدة، هي ما يختصر 90% من طريق السَلام، ويجسّر الهوّة إليه، ويبني بين المتباعدين ألف سبب للوصال، ويشد قلوبهم المبعثرة، ويرتب آمالهم المشتتة، ويكسر جمود المفاوضات، ويخلق التوافق بشأن القضايا الخلافية. أغاثتنا تلك الكلمة في 1988، لصناعة اتفاقية السلام السودانية (الميرغني/قرنق)، التي ضمِنت حينها وقف الحرب؛ والوحدة؛ ووضعتهما في طريق السلام! وهي نفسها السبب الرئيس للنجاح الكبير لرحلة جوبا في 2020، التي ضمّت ٣٠ قياديًا من الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل برئاسة نائب رئيس الحزب السيد جعفر الميرغني، الذي ترك لمن يشاء ميدان الصراعات؛ واختار هو ميدان صناعة وتأمين السلام، بلا منة أو أذي. فما هي هذه الكلمة السحرية التي لا أود الإطالة على القارئ في انتظارها؟ وكيف يمكن استغلالها؟
إنها الثقة!
نعم: الثقة، هي التي التقطها الدكتور جون قرنق، وهو ينظر إلى عيني زعيم صوفي، وقائد سياسي، يجلس أمامه في أديس أبابا، ويقول له: دعنا في البداية نتعاهد على الصدق، لا نقول لك إلا ما نؤمن به، ولا نريد منك إلا ما في صدرك، ونعمل معًا لتحقيق ما ينفع الناس. كانت هذه هي الكلمات المفتاحية؛ التي اخترقت صدر الراحل العظيم، وتحوّلت علاقة التوجس، والشعارات الثائرة الكبيرة إلى جمل وديعة مفعمة بالمحبة. لأنّ قرنق؛ لم يكن ثائرًا ليحطم كل شيء، بل كان رجلاً يسعى للبناء، ولخدمة أهله، واتفق معه مولانا السيد محمد عثمان الميرغني حليفه التاريخي؛ على أنهما، لن يتصرفا بالكراهية لا تجاه بعضيهما فحسب، بل تجاه كل هذا السودان!
أنا وغيري كثر كنا شهودا على هذه الثقة النادرة، التي وفرت أرضية تاريخية لنجاح أول عملٍ جبهوي مشترك حقيقي يعبر من ضيق الإثنيات الحزبية إلى سعة التحالفات السودانية؛ فكان التجمع الوطني الديمقراطي، وكان رئيسه لا يرى القرار كاملاً دون دعم الدكتور جون قرنق، والأخير؛ يقضي الليالي الطويلة في مشاوراته مع حليفه.
كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان، غريبة الوجه واللسان، منبوذة في كل الصحف العربية وغير مرحب بها في معظم العواصم العربية، لا يذكر اسمها إلا وجاءت أحابيل من الاتهامات، وسيل جنوني من الكلمات الصعبة. وكنا نؤمن أننا لو أردنا حقًا أن نعمل من أجل المستقبل والسودان، فعلينا أولاً أن نصحح مفاهيم الاشقاء العرب الخاطئة تجاه حركة قرنق وعلينا ان نخبرهم، أن هذه الحركة ليست ضدهم، وأن نقول للمسلمين، أن قرنق صديق لهم، ولا يسعى لزوالهم،ولا يشكل خطورة علي مصالحهم. وكان الزعماء والرؤساء العرب يستغربون من مولانا الميرغني، حين يقول لهم ذلك الطرح؛ولسان حالهم يقول: كيف تدافعوا عن قوم؛ يريدون تحرير السودان من (حاضنتكم الثقافية) ؟، وكنا نقول لهم، نحن نثق في دكتور جون الذي يقول (تحرير السودان، من شنو، ما من منو). صحيح بيننا إختلافات فكرية، لكنها لم تهز أرضية الثقة، وهذه الثقة وحدها كانت هي الضامن لوحدة السودان، التي أجزم، أنها كانت خيار قرنق (المفضل).
كان قرنق بدوره، يهاتفنا في منتصف الليالي عبر (الثريا)، لينقل لمولانا الميرغني بأنّه أخبر الزعيم الإفريقي الفلاني عن تسامح السودانيين،ويقول لنا بلغوا رئيسي(My Boss) باني قد ضربت له موعدا مع الرئيس الافريقي فلان؛ويود لقاء مولانا الميرغني، وكانت الجلسات الطويلة، واللقاءات مع الزعماء الأفارقة مناسبة حقيقية، لإذابة جليد، وبناء جسور ثقة حقيقية، وعلاقات طيبة وممتدة، ساهمت في تشكيل صورة ناعمة، جعلت باحثين وطلاب؛ يقدمون تجربة التجمع الوطني الديمقراطي كأكبر وعاء جامع لأهل السودان بمختلف احزابهم وتنظيماتهم واتجاهاتهم على أنها مثال للتعايش والتسامح في السودان.
هذا حديث طويل، لا ينتهي إذا بدأ. ولنا عودة إليه. ولكن ذلك لا يتأتي بدون إجابة الشق الثاني من سؤالنا أعلاه، إذا كانت الثقة هي الكلمة السحرية، فكيف يعاد البناء؟ كيف يمكن أن نعيدها، ومن يمكنه أن يفعل ذلك؟
يتأسس اليوم، عهد جديد، بين القائد عبد العزيز الحلو، وبين الحزب الاتحادي الديمقراطي، قد يتضمّن الحديث تفاهّمات كثيرة، عبر عنها الدكتور الشفيع خضر بشكل جيد في مقاله، ولكنّي أراها ثانوية بالقياس إلى المعنى الحقيقي والجدير بالمتابعة، والحقيق بالمعاينة، وهو الفرصة التي يجب التقاطها، وتعزيزها: ترميم الثقة أو إعادة بناءها.
لا يمكن لقائد عسكري وزعيم كبير مثل الحلو، أن يرهن نفسه لاتفاقات ورقية، وقد جرّب الدخول في الحكومة السابقة، وهو صاحب ذاكرة بعيدة، تعرف كيف توأد الاتفاقيات ببطء. ولا يمكن معالجة هذه الذاكرة، بدون إجراءات شجاعة من قبل الحكومة الحالية في الخرطوم، لا في حزمة التنازلات الفكرية؛ أو المبادئ، وإنما في تقديم المثال وتهيئة الأجواء وبناء جسور الثقة. وفي الخرطوم رجال كثر يمكنهم أن يسهموا في هذا، منهم مجلس الوزراء ومجلس السيادة؛ والتحالف الحاكم، وغيره، ولكنّ المبادرة الحقيقية التي يمكن أن يعوّل عليها، وضعتها الظروف الآن بين يدي النائب الاول لرئيس مجلس السيادة قائد الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو.
وإذا أراد قائد الدعم السريع، ونائب رئيس مجلس السيادة، أن يقطع شوطًا ناجحا في المفاوضات الجارية من أجل السلام، عليه أن يجتمع بالإمام السيد الصادق المهدي، ويسأله: من أكثر الناس ندمًا على قطع الطريق أمام اتفاقية الميرغني/ قرنق ١٦ نوفمبر 1988. سيسمع مقدمات طويلة، أنّ الميرغني لم يكن يومها جزءًا من الحكومة، وأنّ الجبهة القومية الاسلامية رفضت الاتفاقية؛ وأن هناك من حاول اغتيال الميرغني قبل سفره الي اديس ابابا للتوقيع علي الاتفاقية، وكلمات كثيرة، ولكنّ الإمام سيخبره بالحقيقة: “كلنا ندمنا”!
إذًا؟ ما هو المطلوب في هذه المرحلة لطي صفحات الماضي والعبور الي آفاق المستقبل؟ بعيدا عن الخوض في أوحال أسباب عدم نجاح المفاوضات الجارية في مدينة جوبا عاصمة دولة جنوب السودان تحت رعاية الرئيس سلفاكير ميارديت والتي تجاوزت الأربعة جولات منذ انطلاقتها في سبتمبر من العام ٢٠١٩م دون الوصول الي بوادر اتفاق. يجدر بنا التأكيد على أن عملية صناعة السلام في السودان أكبر من أن يتم حصرها في مجلس أعلي للسلام (جهاز حكومي) أو مفوضية للسلام ولدت ميتة ولم يراع عند تشكيلها المعايير المطلوبة فالسلام صنعة قومية تحتاج لأوسع مشاركة من كل الجهات ذات الصلة والدراية والمعرفة. وفقدان الثقة بين الأطراف المتفاوضة سيظل العقبة الكؤود لتباعد المواقف بين المتفاوضين حول القضايا الرئيسية والجوهرية وبالتالي يزيد من إتساع دائرة الشكوك حول إمكانية الوصول الي اتفاق سلام مع الحركات المسلحة في المدة المحددة. وفكا لجمود مسارات التفاوض وكسبا للوقت فان العملية تحتاج من جانب الحكومة إعادة النظر في منهجها وآلياتها والبحث عن شخصية مؤهلة تقوم بدور بناء وتعزيز الثقة بين الأطراف، ويكون ملما بالملف، ومدركا لأبعاده وتداعياته ،ومتشابكا مع أطرافه المتعددة: (الجبهة الثورية، الحركة الشعبية بقيادة الحلو، حركة تحرير السودان بزعامة عبدالواحد وكذلك حركة مني اركو مناوي) ولقد سبق لرئيس الوزراء تكليف الدكتور الشفيع خضر مبعوثا خاصا وعقد جملة لقاءات استكشافية مع قادة الحركات المسلحة مهدت الطريق لانطلاقة المفاوضات فنري أن يفسح المجال له؛ ليتقدّم للإشراف على المفاوضات من جديد، ويقودها بشكل مباشر مع القائد حميدتي، ويمنح كل الأحزاب السودانية فرصتها في محاولة العمل ضمن إطار صناعة السلام في السودان. فهناك أمر حقيقي وثابت، أنّ الثقة المتآكلة، قوّضت كل شيء، وأننا دخلنا في مرحلة انحسار الآمال، وهذه مرحلة صعبة، وفيها تضحيات، غير مبررة ولا مطلوبة! وإذا عادت الثقة، لن يكون السؤال هو العلمانية، ولا الإسلامية، بل سيكون التحول الديمقراطي، والتنمية، والعيش المشترك.
إننا نحتاج أن نشرح للعالم، أنّ الوطن اتسع بحق، وصار يسع الجميع، يسهمون في بنائه، ولا يكيدون لبعضهم، بل يتعاونون. ومثل هذا الشرح، يحسن أن يطرحه المثقفون، الذين ينشطون في مشاريع حقوق الإنسان والتسويات السياسية، لتكون التسوية السياسية الشاملة في جوهرها تقوم على طي ملف الحرب، والتأسيس للسلام.
قطار الفترة الانتقالية يمضي بسرعة، وآمال الناس قد تذبل، وليس لدينا ترف إضاعة الوقت، ولا الجهد، وعلينا الاستفادة من كل فرصة. والفرصة الآن، ومنطق الأهداف يقول، أنّ لدينا “هداف ماهر”، يمكنه أن يحرز الهدف، فلماذا لا نمرر له الكرة، ليحتفل شعبنا جميعًا بالسلام العادل والشامل والدائم.
إننا نؤمن بأن ما ينقص بلادنا، منذ سنوات، هو شيء واحد: الثقة. وليس لدينا سوى السعي لإعادة بنائها.

hatimelsir@hotmail.com

تم نشره يوم 6 يونيو 2020 بصحيفة السياسي السودانية*